الأيـَّام الأخيرة ..




النَّظْرَة ..
سما ناظري إلى السماء .. لونها أسود موحش ، إلا أنه يُسلي ناظري وهاجسي بالنظر إليه ، ترقص النجوم طرباً كل ما يحين وقت الظلام ، ويُشع نورها على محياي فاعكس شكلها وبهائها ، أرمى نظري هنا وهنا وهناك ، كأن تلك السماء أرض امتلأت بالجواهر والذهب واللؤلؤ .. فيسبح خيالي معها ويذهب بي كل مذهب .

شَريْط الذِّكْرَيَات ..
ومازلت انظر إلى السماء .. حتى انعادت مشاهد في حياتي سالفة الأوان ، فرأيت مواقفي معه .. وسمعت حديثي إليهِ وحديثهُ إليّ .. وتراشق الضحكات فيما بيننا ، رأيتهُ قادماً فاسأله : أين كنت ؟ ، ثم نائماً لأقعده ، ثمّ واقفاً لأمازحه ، ثم باكياً لأواسيه ، ومشاهد أخرى مرّت كَلمح البصر .

طُفُوْلَتُنَا ..
كانت أعذب لحظات الحياة .. لا نلبث وقتاً حتى نضحك ، ووقتاً آخر نبكي فجأة .. ثم نضحك والمدامع تودّع أعيننا ، يُصبح علينا الفرح كل يوم وتنام السعادة على فرشنا كل ليل وتشق البراءة قلوبنا ، والمستقبل كالطائر بيننا .. سينقلنا من حياتنا تلك إلى ما بعدها .

رُوْح ..
كبرنا مع الزمن .. فكبرت نظراتنا وآرائنا وأفكارنا وتصوراتنا ، وأصبحت روابط الصلة فيما بيننا حميمة جداً .. بقيت روحي وروحه أن تتداخل مع بعضهما فتصبح روحاً واحدة .. وهل يوجد في هذه الحياة شيء أجمل من أن تكون هناك روحان ارتبطت مشاعرهما فأصبحت لقلبٍ واحد !! .

اللِّقَاء ..
نغيب عن بعضنا .. ثم نتقابل والمحبة قد سقت قلوبنا شوقاً .. كمن يشرب الماء عطشاناً بعد فقده له ، فأحكي له ما دار في الأيام الماضية ويحكي ما حَدث له ، لقيانا كالمطر وقلوبنا كالأرض القفر .. لم يَسقيها الله من فضله وبقيت جافة متشققة ما بها رشفة الماء .

يَوْمُ الاثْنَيْن ..
أتى إلى بلادي فجأة من أجل إنهاء واجبات لعمله ، سعدت عندما اتصل وأخبرني بقدومه .. حاولت إنهاء أشيائي التي ستشغلني عنه ، والتقيت به آخر الليل .. كعادتنا نتبادل الأخبار والمواضيع التي دارت وقت الغياب .. سألته عن راحته في العمل وأخبرني أن بدايته مريحة جداً وأن مستقبله مضمون للاستمرار به حتى يؤمن لقمة عيشه .

يَوْمُ الثُّلاثَاء ..
انتظرته على الغداء .. وأخبرني أن العمل لم ينتهي بعد ، قرابة الثلاثة أشهر لم أراه .. متشوقاً للجلوس معه ولكن العمل يبعده عني ويبعدني عنه .. مرت الأوقات : العصر والمغرب والعشاء .. الساعة العاشرة مساءاً سألته عن عودته وقال لي أنه سيعود بعد الثانية عشر ليلاً ، قضيت بعض الوقت مابين القراءة اليسيرة وتصفح الشبكة العنكبوتية .

يَوْمُ الأرْبِعَاء ..
الساعة الواحدة صباحاً .. أتى وأنست بحضوره أنا والأهل ، مكثنا وقت السحر بالحكايات بين أخبار العائلة .. وبين أخبار البشر .. وبين الأفراح التي زارتنا .. و الأحزان التي أرهقتنا ، بعد دخولي لحجرتي لحقني وقال أنه يريد أن ينام عند محمد قريبنا و شريك عمله .. حتى يذهبان إلى العمل سويه .. وافقت على ذلك وذهب ، وفي وقت الظهر اتصل ليخبرني أنه سيسافر لإتمام العمل في شمال البلاد .. ولكنه نسي بعض أمتعته عندي .. أتى وأخذها ثم صافحته مصافحة سريعة تحت حرارة الشمس المحرقة .. بعد أن أطلقنا ضحكةً سريعة .. ودعته وودعني .

يَوْمُ الخَمِيْس ..
الساعة الثالثة فجراً .. على ضوء القمر كنا جلوس أنا والأهل .. من بيننا أحد الإخوة صامتٌ لا يتحدث .. مطرقاً رأسه يفكر بعُمق ، ركزت بصري عليه .. وتغامزت أنا وبعض الأخوات .. كأننا نقول : مابه ؟! .. رآنا بعد أن صمت المكان .. انقلب وجهه إلى السواد .. يريد أن يحكي لكنه تلعثم .. وقف ثم ذهب .. وعاد بعد دقائق .. واختفى فجأة ثم عاد .. كأنه يريد أن يقول شيئاً ، قاطَعَتهُ إحدى الأخوات وقالت له أن هناك شيء يُخفيه .. ضحك ضحكةً مبعثرة .. ضحكةً لم تكن معهودة منه سابقاً .. ولكن سرعان ما اكتشفنا مابه .. قال بصوت حَزين : اثنين من أقاربنا .. قدر الله أن يحصل لهم حادث في سيرهم .. تغيرت الوجوه .. بدأت النظرات يميناً وشمالاً .. أسئلة سريعة : من هما ؟ هل هما فلان وفلان ، قالت إحداهن : هل هو أحد أبنائي ؟؟ ، قالت الأخرى : هل هما تركي ومحمد ؟؟ قال : نعم .. وهما الآن في غرفة العناية المركزة .. بدأ البكاء والصراخ .. والسؤال مرةً أخرى : هل أنت متأكد أنهما في العناية .. أم وافاهما الله ؟؟ ، رد بإجابة سريعة : حالتهما سيئة جداً ، أنا لم استطع الحديث كل ذلك الوقت .. بدأت الآن في حديثي بعد أن رفعت صوتي : هل أنت متأكد أن أحدهما لم يمت ؟ .. قال بصوت متكسر : تركي .. انتقل إلى رحمة الله .. ومحمد في العناية المركزة .

دَمعَةُ الفِرَاق ..
رحل تركي .. فجأة ، انتهت حياته بقضاء الله .. لم أعلم أن هناك لحظة سيقولون بها : كان تركي رحمه الله يفعل كذا ، لم يزُر فكري أني سأفقد صديقي وقريبي وحبيب قلبي ، بكيت .. حتى شَكَتني وجنتاي من انهمار الدموع عليها ، بكيت .. وأصبحت حينها لا أرى الأشياء إلا من خلف مدامعي ، بكيت .. حُرقة ، بكيت .. حُزناً ، بكيت .. ألماً ، إن الألم الذي عَصر قلبي كفيلٌ بأن يُميتني .. خشيت على نفسي من الجُنون ، أصبحت الدنيا أمام عيني .. كحبة الرمل الصغيرة لا تساوي شيئاً .. كَرهت الحياة .. كَرهت نفسي التي رافقت تركي .

قَبْل 14 سَاعَة ..
الساعة الثانية ظهراً .. يوم الخميس ، تركي يقود السيارة ومحمد بجانبه وفي الخلف رجلاً يتبعهم في العمل .. يسيران بسرعة لا تتجاوز المائة كيلوا متر في الساعة ، وفي طريق سيرهم .. انعطفت وبسرعة شاحنة ضخمة إلى اليمين .. لم يتمالك تركي نفسه في القيادة .. حتى ارتطموا بجانبها الأيمن الأمامي .. وانحرفت السيارة لليمين وانقلبت حتى أصبح عاليها سافلها .. وتناثروا على الأرض .. من بين حطام السيارة .. محمد ساقطاً لا يستطيع أن ينهض التفت إلى تركي ورآه ساكناًً يتلوّى بهدوء ، في لحظةٍ يسيرة حَضر الإسعاف .. نقلوهم جميعاً ، الرجل الأجنبي به كدمات خفيفة .. محمد رأى الأطباء يلتفون على سرير تركي .. ويأخذون أنابيب غريبة ..! ، وكأنهم يسحبون منه الدّم .. أو يعيدون له الحياة بقدرة الله ، صرخ عالياً : مابه تركي ؟ مابه ؟ .. أرجوكم لا يمت .. لا يمت ، أخذوه الممرضين وأخرجوه للغرفة المجاورة .

تُرْكِي ..
سأتحدث إليك .. وكما عهدت منك الإصغاء :
فارقتك ، وفارقت البسمة الصادقة .. وفقدت نسيم الروح العليل ، حملتك على كتفي وأنا أبكي وأنوح .. أراك على الألواح وكأنك تقول : الوداع يا صديقي .. الوداع أيها الرفيق ، كأني أسمعك تقول : لن تلقاني ولن تراني ولن تسمع حديثي إلا إن لحِقتَني إلى الموت ، كأني أسمعك تقول : أرجوك لا تنساني ، آآآآه يا تركي .. كيف لقلبي الذي ملأته بحبك أن ينساك !! .. وكيف لمشاعري التي امتلأت بحنان الصديق وعَطفه أن تنساك !! .. وكيف لدمعةٍ أحرقتني أن تنساك !! ، دفنتك .. ودفنت مع جثمانك السعادة في حياتي .. فلا المَلاهي تؤنسني .. ولا الأفراح تغشاني ، يراني الفَرح .. كأنني عدواً فيهرب من أمامي ، ثم يَرمقني الحزن من بعيد .. فيُسرع في قدومه إلي .. يضمني إليه حتى تتداخل أضلاعي ، في بحر الأحزان العميق .. أسبح وأعوم من شاطئ إلى شاطئ .. ومن جزيرة إلى جزيرة .. حتى أنهكني ، تركي .. رحلت عن الحياة وأنا راضياً عنك .. وإن ما يسليني الآن هو ذكراك .. ذكرياتك وماضيك الجميل .. وجميع مواقفي معك .. منذ أن كنا صغاراً حتى كبرنا ، في داخلي حديث كثير إليك ولكن اكتفي بذلك القدر .. واعتقد أنك لو رأيت حالي بعد فراقك سترحمني وتحنو عليّ وتطلب مني أن لا أحزن .. فالحزن من أجلك عذاب .. وسأتذوقه ماحييت .. أحبك .

قَصِيْدَةُ الأيَّامُ الأَخِيْرَة ..
رحل   عنّي   وخلاني   أعيش   بذاكرة   دنياه
توفي    بليلة   الجمعه   بشهر   شعبان   هالحالي

جلست أبكي بعد موته وكيف أصبر على فرقاه
جنونٍ    صابني    لآجله   حبيبي   أول   وتالي

أسلّي  روحي  مع  تركي لوحدي بسّ أنا وإيّاه
ولا   مرّه   شعرت   إنّه   يشيل   بقلبه   الغالي

بعَد  ما  هالخبَر  جاني  لها  فكري  على  ذكراه
ذكرت   مزوحَه   وحكيه..   سواليفه   بجوّالي

وعيني   تسبَح   بدمعي  مثل  كَاسٍ  تَنَضّح  مَاه
وحتّى   بَسمتي   عيّت   تبين   بكلّ   الأحوالي

وصوته    تعشقه    أذني   وبالمَرّه   بعَد   تهواه
أبتخيّل    أنا    موته    أحسّه    جالس    قبالي

ولو   طالعت   بعيوني   على   أية  مكان  ألقاه
أشوفه   قاعد  وواقف  ويمشي  "صار  يوَرّالي"

أنا   أشهد   إنّ  أبوه  اللّي  بايديه  الطيّبه  ربّاه
جميع    الناس   يحبّونه   وربّ   الكون   رجّالي

لفاني   قبل   ثالث   يوم  وشفته  يبتسم  محلاه
كأنه    جاء    يودّعني   وداعه   آخر   وصالي

وسافر  عنّي  والمكتوب  له  من  ربّي  ما خلاه
ملك  هالموت  أخذ  روحه  بليّاها الجسم خالي

عساه  برحمتك  يارب  أبدعي  لك  (  أيَا رَبّاه
تَجَاوَز   عَن   خَطَايَاهُ   وهِبْهُ   المَنزِلَ  العَالي  )

ويارب   البشر   عبدك   شبابه   ما  بعد  أفناه
أبيك  تعوّضه  باقي  الشباب  أرجوك  يا  والي

"قسم   بالله   يا   تركي   وأكررها  قسم  بالله
كرهت  الدنيا  من  بعدك كرهت العيشه لحالي

عهد  منساك  يا  تركي  وحبّك مستحيل أنساه
تراك  بداخلي  تسكن  وكل  لحظه  على بالي"







7 التعليقات:

غـــدوو يقول...

....الأيام الأخيرة ....

أبدع قلمكم في عكس سابق أيام مالكه...

رحم الله صاحبك وأبقى ذكراه عبقاً تعطر خلدك كلما جلتَ في أوساط تلك الأيام ...

لا بأس ، هكذا الحياة ...

"ولا تنسى بأن الذكريات تريح بقدر ماتتعب "


أطيب التحـــايا

د / ماسنجر يقول...

( غــدو )

هي تزيح بقدر ما تتعب ..
ولكنها تتعب بقدرما تزيح ..

لقد كان معي .. وفجأة ذهب هناك !
فلا تلوميني أخيتي على ذلك الحُزن !
لن يذوق حرارة النار إلا من يطأ عليها ..

كنتِ هنا ..
فآنسني تواجدك ..

حياك الله أختي الفاضلة ..

(أجراس الرحيل ) يقول...

أجراس الرحـــيل

ماأشد وقع موت الفجأة على القلب ..!؟

بالأمس كان جليسنا واليوم أصبح فقيدنا..

رحم الإله صاحبك وصبر قلبك ..أحترامي لقلمك ..

د / ماسنجر يقول...

( أجراس الرحيل )

غفر الله له ..
بالأمس وقبل الأمس وما قبلهما ..
كان يسير ذكره في فكري ..
ويعطر يومي ..
ذهب .. ولكن ذكره باقياً ..
فأصبح يسعدني ذكره مع أنه تحت التراب ..

رحم الله الجميع

شكراً لك

غير معرف يقول...

لماذا دائماً يحتويني الصمت .. عند أحاديث السكرات ..؟!!

يقول أحمد حسن الزيات :.

" الجبار الذي سلط الألم على الروح ..
هو الرؤوف الذي سلط الزمن على الألم .."

ويقول :.
"اذا كان في اليوم قنوط ,,
ففي الغد رجاء ,,
واذا لم تكن لي الأرض ,,
فستكون لي السماء "

جمعكما الله في أعالي الجنان ..
في مقعد صدق عند مليك مقتدر ..


... شخص ما ...

غير معرف يقول...

كلنا جميعا سوف نلحق تركي ..


انا لا ألومك ففراق الأحبه عذاب يتجرعه المفارق ..


لكن طلبت من الله ان يجمعكما بأعلى مراتب الجنان على سرر متقابلين ووالديك ..

ولا تنسى اخي سلمان ان المتحابين في الله يأتون يوم القايمه على منابر من نور ..
جعلكم الله منهم ..




تقبل خالص شكري وأحترامي..
استاذ سلمان ..

غير معرف يقول...

يا إلهي يا سلمان, هذا مؤلم جداً
شعرت بالألم يعتصر قلبي..
لن تستطيع أن تنساه, ولن يموت ألم فراقه بداخلك
وربما يتجدد حينما تشعر بأنك بحاجه لصديق قريب..!
حينما رحلة صديقة روحي في حادث مروع, أظنها أخذت معها معنى الصداقه الحقيقية القوية..ربما أنه كُفّن معها هي الأخرى..بعض أنواع الصداقه تكون نادرة لدرجة أنك قد لا تجد مثيلاً لها أبداً..
نسأل الله أن يجمعنا بهم في جنات الفردوس يا حي يا قيوم

****

إرسال تعليق

شكراً لك على الإطلاع ، بانتظار تعليقك على ما قرأت !
إذا أردت إضافة " لقبك " في التعليق .. إضغط على التعليق بإسم : ثم URL الإسم/العنوان ، إختر لقبك وأترك خانة العنوان فارغة ..
( بعدما تقوم بكتابة التعليق أنقر على " كتابة تعليق " ليتم إرساله )