نسيـَان د / ماسنجر .. !



لم يكن نسيان .. أكثر من كونهِ عظة
غفلة منهم .. بيّنت مقامي ومكانتي ووُجودي

كانت الساعة تشير إلى الثامنة صباحاً .. بعد أن استعد والدي – غفر الله له وأسكنه الفردوس – لتجهيزات تلك الرحلة والمتوجهة إلى رمال البرقاء " قرية تبعد عن الأسياح كيلوا متراً " ، اجتمع بعض الأقارب ومن لهم شأن في ذلك اليوم ، أكاد أجن من شدة الفرحِ الذي يغمرني ويعلوا سمائي ، من هم في عمري أصدقائي سيرافقونني بلا عناء ولا رفض ولا شروط صعبة ، انطلقنا إلى مقر اللقاء وهو العِرْق الأول من نفود البرقاء ، وبعد الاجتماع هناك ينطلقون جميعاً إلى المكان الذي يروق لهم وتعجبهم أرضه ويكون مخالفاً للهواء .

وصلنا .. وأنزلوا بعض الأشياء الخفيفة السريعة " شابورة .. كَعك .. كليجا .. سِمسِم .. حافظة الشَاي " وحكايات أخرى .. وقرارات لاختيار المكان ، بين قَبول ورَفض ، أما أنا وتركي – رحمه الله تعالى وغفر له – فنحن في غنى عن تلك .. حتى الأكل والشرب .. لا يهمنا وأصدقائنا سوى لعب الكرة والذهاب إلى ما نريد وقت ما نريد ، ابتعدنا ونزلنا قليلاً إلى الجهة التي نرى فيها القادم من البقية ، استلقينا على الرمال وتحدثت وإياه أحاديث أعلم أني لن أتذكرها .. والأمر الوحيد الذي أتذكره في تلك اللحظة أني كنت منهمك في تبادل الأسرار بيني وبين تركي حبيب القَلب ، وقت يسير حتى بدأ النداء والصراخ باسم تركي .. تركي ! .. تركي ! ، والغريب أن اسمي لم يُنطق وكأني كنتُ نسياً منسيّا ! ، قلت له : إذا كانوا يودّون أن يتفرجون على مناظر الرمال ويعتلون النفود أو يحتطبون حطباً ليدفئنا فأخبرني ، قال : حسناً ، وسبحان من أنساني أن هذا الصوت وتلك النداءات ماهي إلا لتغيير المكان إعلاناً عن اجتماعهم كلهم ليتم الذهاب إلى مكان آخر ويمكثون به بقية اليوم .

ذهب تركي .. واختفت الأصوات .. واختفت النداءات .. وصوت السيارات ! ، قمت من مكاني واقفاً ونظرت إلى مكانهم ولم أجد أحداً ! ، ولا في الأمام ولا في اليمين ولا اليسار ! ، يا الله ! أمر موحش حقاً ، أود أن أصرخ عالياً وأصيح باسم أبي : يا بشـر .. أبـي .. ، ولكن لمن أنادي ؟! ومن الذي سيسمعني ؟! ، التفت إلى الخلف ووجدت ثلاثة بيوت من الشّعر بعيدة يسكنها رجال من البادية ، ونظرت إلى مكاني وآثار سيرهم وعلمتُ أني وحيداً ، ولكن قلتُ لتركي أن يُخبرني ! يُناديني ! ، سبحان من أنساه ومن أعمى ذاكرته .

أسير عدة خطوات .. لا أدري أين الهَدف ولا إلى أي مكان سأذهب ولا أي وجه جديد سألاقي ، وهل سيعودون لأخذي أم سيكون سلمان ذكرى ومرّت في حياتهم وحياة تركي ! ، كأن هيئتي ومنظري ولساني يقول : أبي .. آخر أبنائك سلمان .. فكيف يطيب لك نسيانه ونسيان اسمه وحضوره ! ، ما أنتَ إلا أملاً انتظرك ونوراً أبصر بك وشمساً تُنعش عُمري .. وتنساني ! ، أتصورني بعد يوم أو يزيد .. أين ستجدني ؟! ، من الجوعِ .. عند أحد أشجار البر أهلكني حتى نهشني وأماتني ! ، أم تحت الرمال .. دفن جسدي الهواء وأكلت لحمي الكائنات حتى أخفتني ! ، حاولت أن أبكي ولكن لمن أبكي ؟ ، حاولت أن أجري ولكن لمن أجري ؟ ، لمن أنظر لمن أصبر ؟ ، ظللت على هذه الحالة دقائق يسيرة .

رفعت نظري وإذا هم يصعدون رمال العِرق الثاني من النفود ، أبي والبقية ، صرخت عالياً .. بكيت ونثرت الدمع حتى أخفى رؤيتهم ، رفعت يدي وحركتها بسرعة لعلهم يَروني ! ، وقفت السيارات ووقفتُ معتقداً أنهم وقفوا لأجلي .. وفعلاً ينزل أحد إخوتي ليتأمل من بعيد ! ، وما هي إلا أجزاء يسيرة حتى دارت السيارات وعادوا إليّ حتى وقفوا عندي ، أبي : سلمان ! سلمان ! ، فتحت الباب واقتربت إليه وضمّني إلى صدرهِ وهو يقول : لا تبكي ! ها أنت معي .. الحمد لله أننا عدنا إليك ، أخرج من جيبهِ مائة ريال ووضعها في يدي ، نزلت من مكانه وركبت في الخلف إلى جانب بعض الإخوة ، والمدامع تسيل وتسير وتنتثر ، والتعليقات المضحكة من هنا وهنا وهناك .

ذاك يقول : سلمان ! إلى أين ستذهب لو لم نأتيك ؟! ، والآخر يقول : سلمان ! أعتقد أنك تقول في نفسك : لعلهم ينسوني مرة أخرى من أجل مائة ثانية ! ، وذاك يقول : الحمد لله أن أهل البادية قريبين إليك ! ، بقيت على حالي حتى وصلنا ، وبعد النزول ذهبت إلى تركي وتشاجرت معه : لماذا تنساني ؟! ألم أقل لك أخبرني ونادني ؟! ، قال : والله أنني نسيتك ولم تأتي إلى بالي ! .

أبي .. افتقدته بعد تلك الحادثة بعشر سنوات ، وتركي .. أخذ الله أمانته ، وسلمان .. مازال يفتقد أحضان أبيه ، ولحظات تركي .

كانت تلك الرحلة عام 1415 هـ


14 التعليقات:

أبو تركي الشدوخي يقول...

أمطر الله سحائب رحمته على والدكـ + تركي ,,





** موقف رائع وشرح يجعلك تعيش الأجواء معه ,,



كل الشكر .. د.ماسنجر ..

غير معرف يقول...

رحم الله والدك وتركي وجميع أموات المسلمين ..

عبدالعزيز العريني يقول...

سلمان .. اسأل الله أن يجمعك بهم في جنانه ..
ما شاء الله .. آخر سطر .. أقسى من الحجر :(

د / ماسنجر يقول...

* أبو تركي الشدوخي ..
حياك الله أيها الطيب وبيّاك .. الحزن أجبرني حينها أن أتذكر ذلك الموقف قبل 16 سنة وحرك فيني من المدامع ما حركه .. حييت يا قدير ..


* غير معرف ..
اللهم آمين .. أشكرك على تواجدك المزهر أيها الطيب .. وأهلاً بك ومرحباً


* عبد العزيز العريني ..
اللهم آمين ومن تحب يا عبدالعزيز .. ليس السطر وحده أقسى من الحَجر .. بل اليوم كله قاسي جداً ، مرحباً وأهلاً ..

غير معرف يقول...

" نسيان د/مسنجر "

نسيانه في الرحلة .. ؟!!
أم في دخول دهاليز الموت ..؟!!

عجباً .. أخوفٌ تملكني ؟؟
أم هي رهبة القدر ..!!

... شخص ما ...

فـــجــر يقول...

دمعة عيني من اخر القصة

الله يعينا على الدنيا

تسلم على هذة القصة...

السلمّي .. يقول...

رحم الله أموات المسلمين

أبوجهاد البُردي يقول...

في الحقيقة لم أستطع أن أتوقف عن القراءة حتى أتممتها !
فعلاً سطرتَ ورسمت القصة بصورة رائعة ~

." فتى نجد ". يقول...

جزاك الله خير على القصص الممتعة واتمنى لك مستقبلا زاهر

أثر،. يقول...

الدقائق اليسيرة في البرلاتساوي شيئاً
عند السطر الأخير الفقد الحقيقي
نسيان يرافقه أمل ويخفف ألمه ووجعه عودة ذلك الحضن الدافئ،
أما السطر الأخير ....

أسأل الله أن يجمعك بهم في رمال المسك والزعفران في جنات عدن .


آثر،.

د / ماسنجر يقول...

* شخص ما ..

هي رهبة القدر ..
حياك الله يا متابعنا الجيد (: ..


* فجر ..
سلمك الله من كل شر ... مرحبا بك ..


* السلمي ..
اللهم آمين حياك الله وأهلا ..


* أبو جهاد البردي ..
رسمتها بصورة رائعة لأن الوجع آن ذاك رسمها كما كانت .. حييت ..


* فتى نجد ..
اللهم آمين وجزاك الله الفردوس يا قدير ..
أهلا بك ..


* أثر ..
اللهم آمين .. كانت أيام ولحظات وساعات وثواني .. وكأنها لم تكن .. ذهبوا كلهم !
مرحبا بك ..

احمد بن فهد يقول...

كل شي بهدنيا له حدود ... ماصفت دنياك من قبلك لاحد

غير معرف يقول...

يالله هذه القصة رصفت أحداثها بسلاسة شديدة, تصورَت أمامي بألوان واضحة وأصوات مسموعة..حقيقة حرّكت الدمع في عيني.. وأخرجت لنا سلمان الطفل الوديع.. رحم الله أباك وصديق روحك..شعرت بحرقتك على هذا الصديق لإني عشت هذا الألم, خصوصا حينما تشعر أنه كان تؤام روحك وأقرب الناس لك..

****

د / ماسنجر يقول...

* أحمد بن فهد ..
صح اختيارك ومنطوقك ، حياك الله


* غير معرف ..
كتبت بالألم ، حياك الله تعالى .. شكرا لحضورك .
رحمهم الله جميعاً ..

إرسال تعليق

شكراً لك على الإطلاع ، بانتظار تعليقك على ما قرأت !
إذا أردت إضافة " لقبك " في التعليق .. إضغط على التعليق بإسم : ثم URL الإسم/العنوان ، إختر لقبك وأترك خانة العنوان فارغة ..
( بعدما تقوم بكتابة التعليق أنقر على " كتابة تعليق " ليتم إرساله )